إشراقة

 

بين مُعْطَيَات العلم الإيجابية والسلبية

 

 

 

  

 

  

 

 

       لكي تُطْلِقَ جملة، أو تَنْطِق بحقيقة، أو تُبْدِي فكرةً، أو تُعْرِب عن رأي، قد تحتاج إلى دراسة مُسْتَوْعِبَة للموضوع المعنيّ، مثلاً: إذا أردتَ أن تقول: إنّ أبا حنيفة رحمه الله (النعمان بن ثابت التيمي الكوفي 80-150هـ = 699-767م) لم يقل هذا القولَ أو لم يَرَ هذا الرأيَ؛ فإنك لاتقدر على الجزم بذلك إلاّ إذا استوعبتَ دراسةَ المُدَوَّنات التي تحتوي أقوالَه رحمه الله ومذاهبَه؛ وإلاّ فإنك لاتتمكّن من القول بأنّه لم يقل هذا القولَ . ولو تجرأّتَ على القول به في غنى عن الدراسة ودونما رادع من الحياء والمروءة العلميّة لنهضت آلاف من الأقلام والألسنة لتردّ عليك وتسائلك : كيف ساغ لك أن تقول ذلك، وقد قال الإمام ذلك في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موضع؟!. وهنا يفتضح أمرُك، وتسوء سمعتُك .

       نعيش اليوم عهدَ الاستعجال والتسابق والسطحية والارتجال؛ فالمقال يُكْتَب على عجل، والدراسةُ تُعَدّ بارتجال، والكتابُ يُوْضَعُ دونما دراسة كافية . من ثم لايعادل أيٌّ من ذلك إنتاجاتِ الماضي في قليل أو كثير، لا في التحقيق، ولا في الأسلوب، ولا في الشمول، ولا في الإتقان، ولا في الإفادية، ولا في الجاذبية؛ فلايكون مبعث دعاء وثناء، ولا يتمتّع بقوة الدوام، ولا بصلاحية الثبات والخلود.

       والنيات والأهداف و وجهات النظر هي الأخرى تفرِّق بين الماضي والحاضر؛ فكان الناس يحظون في الماضي – في الأغلب – بالإخلاص، وحبّ النفع للخلق، والاحتساب . وقد ندر ذلك اليوم؛ فعادت الإنتاجات العلمية والدراسات الثقافية فاقدة مَسْحَةَ اللذة ولَمْسَة الجاذبيّة ومَسَّة الإفاديّة، وأصبحت موضة تُقَلَّد وتقليعة تُحَاكَى، وصار المُتَلَبِّس بها لا يتوخّى إلاّ تحقيق المكاسب الماديّة والجاه العريض والمال الوفير.

       والاستعجالُ رَوَّجَ عادةَ وضع كتاب في الشرح أو في الشرح على الشرح أو ...، خلال عشية وضحاها، وممارسة الكتابة في غياب القراءة . كان الناس في الماضي يأخذون من جهة فينفقون في جهة أخرى. أما الآن فاستغنى الناس عن الأخذ وينفقون من غير >مال< و يبذلون من غير >نقود< فلا يثرى >الفقير< لأن المعطي >مُعْدِم<. من هنا عاد الكتاب يحمل ألفاظاً لاتحمل معنى، تتضخم صفحاته، وتتضاءل موادّه، يلمع ظاهره ويظلم باطنه، يميزه >الفقير< لأن المعطي >مُعْدِم<. من هنا عاد الكتاب يحمل ألفاظاً لاتحمل معنى، تتضخم صفحاتُه، وتتضاءل موادُّه، يلمع ظاهرُه ويُظْلِم باطنُه، يميزه التكرار والإعادة ومحاكاة السلف دونما عقل ووعي؛ فأصبح الكُتَّاب والمؤلفون عارًا على أنفسهم وسبب إساءة >للأعمال العلمية< التي قاموا بها . ويعذرهم أنهم يعيشون عصرَ إمبراطورية الحضارة الغربية التي أفقدتهم الحياءَ والمروءةَ والشعورَ بالندم؛ فلا يندمون مهما فعلوا >الأفاعيل< فهم يقومون بدور السارق الذي يسرق جهارًا ونهارًا ويدين المسروق منه بأنه لم يُمَهِّد له الطريق لإحسان السرقة !.

       فأنتَ الآن لاتحتاج لنفي حقيقة أو إثبات أخرى إلى دراسة آلاف الصفحات والتطواف على المكتبات . إنّك حرٌّ أن تقول : فلان قال ذلك، مهما لم يقله قطّ ، وفلان لم يقل ذلك ، مهما قاله ذلك مرارًا .

       من مُعْطَيَات الحضارة الغربية أنّها – إلى جانب سوءاتها التي لاتُحْصَىٰ – أصابت الإنسانَ بداء الاستعجال الذي جعله يرتجل ويتهوّر في كل شيء، ولا يكاد يصبر على شيء ليُعْطِي مفعولَه الطبيعيَّ، ويأتي ناضجًا مفيدًا مُجَرَّدًا من كل ما يُلاَبـِس المُسْتَعْجَلاَت من السلبيّات والسطحيّات التي تجعلها لا تبقى طويلاً، ولا تَنفع نفعًا مطلوبًا، وإنما تُوْجَد عاجلاً، فتنتهي عاجلاً، كالجذوة تشب دفعة فتنطفئ عاجلاً؛ فتكون كالزبد يذهب جفاءً .

       زادَ الطينَ يلّةً ثورةُ التكنولوجيا وسيادةُ الماكينات والآلات التي عطّلت الإنسانَ وقُوَاه الفكريَّة والجمسيّة معًا؛ فأصبح – أو يكاد يصبح – جزءًا لاغيًا في >ماكينة الكون< التي صارت تديرها الآلات العجماء ذات التصرف العفويّ . وأمسى الإنسان عاطلاً عن >الأعمال العبقريّة< التي تدوم على الدهر فوائدُها؛ فتُسَجَّلُ وتُذْكَر وتُشْكَر؛ فعاد يشغل فراغَه بالألعاب التي لاتتنتهي سلسلتُها، أو بمشاهدة الأفلام الماجنة، والمشاهد المثيرة الصارخة التي تدخل عقرَ داره بل غرفةَ نومه دونما طلب منه، عن طريق جهاز الدش والأسلاك التي بسطت ثقافتُها سيطرتَها على المدن والقرى >فاستعبدت< الحضريَّ والبدويّ معًا، والشبابَ والكهلَ، والرجلَ والمرأةَ، والأخَ والأختَ، والوالدينَ والأولادَ في وقت واحد.

       الاستعجالُ الذي وَلَدته الحضارةُ الماديّةُ سلبت الإنسانَ قوةَ الصبر، وفرصةَ التأمّل والتفكير الضروريّة، وهمةَ بذل الجهد والوقت في عمل من العمال لأقصى الحدود. وتلك هي العوامل الأساسية التي تعين الإنسان على القيام بأعمال خالدة تنفع نفسه والناس؛ فتمكث في الأرض، وهي التي تضفي عليها الأصالةَ والمتانةَ والدقّةَ .

       الإنسان المعاصر يودّ أن يجد النتائجَ خلال دقائق، ويحصد بعد الزرع بسويعات، ويُسَخِّر مسارَ الكون لأغراضه الشخصية، ويكفّ الفلكَ عن دورانه لتحقيق مكاسبه الماديّة؛ حيث لم يُصَبْ بداء الاستعجال فقط، وإنما أُصِيْبَ كذلك بإيثار الذّات على المصالح القومية والأغراض العامّة. إنّه يودّ أن يختصر مسافةَ العمر، ويحتوي مسبقًا حصيلات كلّ عمل يمارسه حالاً وسيمارسه مستقبلاً؛ من هنا لم يعد يقدر على توفية عمل علمي حقَّه من الدراسة المتأنية المتعبة الطويلة؛ فأصبح عمله العلمي هو الآخر عبارةً عن كثرة الألفاظ وقلة المعاني. فتضخمت المباني وتضاءلت المعاني، وتوسّع الظاهر وانكمش الباطن. وقد صدق الشاعر الأرديّ الكبير – الذي انتهت إليه رئاسة شعر الغزل في العهد الأخير – >جكر< المراد آبادي (على سكندر 1307-1380هـ = 1890-1960م) حيث قال في أحد أبياته الحيويّة الخالدة:

       >إن جهل العقل أدّى بالإنسان إلى هذه النتيجة السيئة التي تختصر في أنّه تَقَلَّصَ الإنسانُ وتَمَدَّدَ ظلُّه< .

       قد تقرأ كتابًا ضخمًا في فنّ من الفنون، وتروح لتعصره فلايبضّ إلاّ بقطرة أو قطرتين من المعاني والأفكار ذات الصلة بالموضوع الذي يكون قد تَعَرَّضَ له.

       العكوفُ على عمل من الأعمال للوصول به إلى مستوى مطلوب من النضج والاكتمال والإتقان والجودة، أصبح اليوم شيئًا نادرًا؛ لأن جيل اليوم فَقَدَ كلَّ رصيد من الصبر والأناة والتحمل ورصد الوقت للتعامل مع موضوع علميّ، أو فنّ فكريّ، أو عمل أدبيّ، أو قضيّة دراسيّة، أو مشكله تعليمية، أو مهمة اجتماعية. إن العلم الطبيعيّ، ومُعْطَيَاته الكثيرة المتنوّعة أدّت إلى السرعة في كل شيء، فاختصر المسافات الزمانية والمكانية، في كل مجال من مجالات الحياة، وصارت الأعمال تُؤَدَّى بسرعة وبسهولة، وبطريقة تُعَدّ >خارقة< كمًّا وكيفًا، وصار الوصول إلى الأمور التي كانت تُعَدُّ >مُمْتَنِعَةً< هَيِّنًا طبيعيًّا، وقد كان من قبل فوق الحسبان والتصوّر.

       وكلُّ ذلك كان مكسبًا إيجابيًّا كبيرًا للعلم نفع الإنسان في كثير من النواحي؛ ولكنه في الوقت نفسه، كان مكسبًا سلبيًّا جنى منه الإنسان الأمرَّ الأَضَرَّ الأخطرَ؛ حيث اختلّت قواه الجسمية والفكريّة، وتَضَرَّرَ كثير من معنويّاته وصفاته الإنسانية، وأصبح كالبهيمة العجماء، أو كالجماد الأصم، أو كالنبات الذي لايعي ولايُصَوِّت ولايبين. من تلك المعنويات والصفات صبره، وتحمله، وأناته: الصفات التي كانت تعينه على الإنتاج العبقري، والعمل العصامي؛ فأصبح اليوم رهينَ التكنولوجيا وعبدَ الماكينات، وحبيسَ الحاسوب والعقل الآلي والفكر الصناعي.

 

(تحريرًا في الساعة 12 صباحًا من يوم الأحد:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 2/ذوالحجة 1427هـ = 24/ ديسمبر 2006م)

أبو أسامة نور

*   *   *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير - مارس  2007م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 31.